فصل: النوع السابع والعشرون في التضمين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


  النوع الخامس والعشرون في الاقتصاد والتفريط والإفراط

اعلم أن هذه المعاني الثلاثة من الاقتصاد والتفريط والإفراط توجد في كل شيء‏:‏ من علم

وصناعة وخلق ولا بد لنا من ذكر حقيقتها في أصل اللغة حتى يتبين نقلها إلى هذا النوع من

الكلام‏.‏

فأما الاقتصاد في الشيء فهو من القصد الذي هو الوقوف على الوسط الذي لا يميل إلى أحد

الطرفين قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ‏"‏ فظلم النفس

والسبق بالخيرات طرفان والاقتصاد وسط بينهما وقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا

ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ‏"‏ فالإسراف والإقتار طرفان والقوام وسط بينهما وقال الشاعر‏:‏

عليك بالقصد فيما أنت فاعله إن التخلق يأتي دونه الخلق

وأما التفريط فهو التقصير والتضييع ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما فرطنا في الكتاب من شيء ‏"‏ أي‏:‏

ما أهملنا ولا ضيعنا‏.‏

وأما الإفراط فهو‏:‏ الإسراف وتجاوز الحد يقال‏:‏ أفرط في الشيء إذا أسرف وتجاوز الحد‏.‏

والتفريط والإفراط هما الطرفان البعيدان والاقتصاد هو الوسط المعتدل وقد نقلت هذه

المعاني الثلاثة إلى هذا النوع من علم البيان‏.‏

أما الاقتصاد‏:‏ فهو أن يكون المعنى المضمر في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه في

منزلته‏.‏

أما التفريط والإفراط فهما ضدان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى المضمر في العبارة دون ما تقتضيه

منزلة المعبر عنه والآخر‏:‏ أن يكون المعنى فوق منزلته‏.‏

والتفريط في إيراد المعاني الخطابية قبيح لا يجوز استعماله بوجه من الوجوه والإفراط يجوز

استعماله فمنه الحسن ومنه دون ذلك‏.‏

فمما جاء من التفريط قول الأعشى‏:‏

وما مزبد من خليج الفرات جون غواربه تلتطم

بأجود منه بماعونه إذا ما سماؤهم لم تغم

فإنه مدح ملكا بالجود بماعونه والماعون‏:‏ كل ما يستعار من قدوم أو قصعة أو قدر أو ما

أشبه ذلك وليس للملوك في بذله مدح ولا لأوساط الناس أيضا وفي مدح السوقة به قولان

ومدح الملوك به عيب وذم فاحش وهذا من أقبح التفريط‏.‏

ومما يجري هذا المجرى قول الفرزدق‏:‏

ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد على حاضر إلا نشل ونقذف

كلانا به عر يخاف قرافه على الناس مطلي المساعر أخشف

هذا رجل ذهب عقله حين نظم هذين البيتين فإن مراده منهما التغزل بمحبوبه وقد قصر تمنيه

على أن يكون هو ومحبوبه كبعيرين أجربين لا يقربهما أحد ولا يقربان أحدا إلا طردهما وهذا من الأماني السخيفة وله في غير هذه الأمنية مندوحات كثيرة وما أشبه هذا بقول القائل‏:‏

يا رب إن قدرته لمقبل غيري فللأقداح أو للأكؤس

وإذا حكمت لنا بعين مراقب في الدهر فلتك من عيون النرجس

فانظر كم بين هاتين الامنيتين‏.‏

ومما أخذ على أبي نواس في قصيدته الميمية الموصوفة التي مدح بها الأمين محمد بن الرشيد

وهو قوله‏:‏

فإن ذكر أم الخليفة في مثل هذا الموضع قبيح‏.‏

وكذلك قوله في موضع آخر‏:‏

وليس كجدتيه أم موسى إذا نسبت ولا كالخيزران

وهذا لغو من الحديث لا فائدة فيه فإن شرف الأنساب إنما هو إلى الرجال لا إلى النساء ويا

ليت شعري أما سمع أبو نواس قول قتيلة بنت النضر في النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

أمحمد ولأنت نجل كريمة من قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق

فإنها ذكرت الأم بغير اسم الأم وأبرزت هذا الكلام في هذا اللباس الأنيق‏.‏

وكذلك فليكن المادح إذا مدح وأبو نواس مع لطافة طبعه وذكائه وما كان يوصف به من الفطنة

قد ذهب عليه مثل هذا الموضع مع ظهوره‏.‏

وليس لقائل أن يعترض على ما ذكرته بقوله تعالى حكاية عن موسى وأخيه هارون عليهما

السلام‏:‏ ‏"‏ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ‏"‏ فإن الفرق بين الموضعين ظاهر لأن المنكر على

أبي نواس إنما هو التلفظ باسم الأم وهي زبيدة وكذلك اسم الجدة وهي الخيزران وليس

كذلك ما ورد في الآية‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد ورد في القرآن الكريم ما يسوغ لأبي نواس مقالته وهو قوله تعالى ‏"‏ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ‏"‏ فناداه باسم أمه ‏.‏

قلت الجواب عن ذلك من وجهين‏:‏ أحدهما أن عيسى عليه السلام لم يكن له أب فنودي باسم أمه ضرورة إذ لو كان له أب لنودي باسم أبيه الوجه الآخر‏:‏ أن هذا النداء إنما هو من الأعلى إلى الأدنى إذ الله سبحانه وتعالى هو الرب وعيسى عليه السلام عبده وهذا لا يكون تفريطا ؛ لأنه لم يعبر عنه بما هو دون منزلته ‏.‏

على أن أبا نواس لم يوقعه في هذه العثرة إلا ما سمعه عن جرير في مدح عمر بن عبد العزيز كقوله ‏:‏

وتبني المجد يا عمر ابن ليلى وتكفي الممحل السنة الجمادا

وكذلك قال فيه كثير عزة أيضا ‏.‏

وليس المعيب من هذا بخاف فإن العرب قد كان يعير بعضها بعضا بنسبته إلى أمه دون أبيه ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقال له‏:‏ ابن حنتمة وإنما كان يقول ذلك من يغض منه وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بن صفية‏:‏ ‏"‏ بشر قاتل ابن صفية بالنار ‏"‏ فإن صفية كانت عمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نسبه إليها رفعا لقدره في قرب نسبه

وقد عاب بعض من يتهم نفسه بالمعرفة قول أبي نواس في قصيدته السينية التي أولها‏:‏

نبه نديمك قد نعس

فقال من جملتها‏:‏

ورث الخلافة خامساً وبخير سادسهم سدس

قال‏:‏ وفي ذكر السادس نظر ويا عجبا له مع معرفته بالشعر كيف ذهب عليه هذا الموضع

أما قرأ سورة الكهف يريد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ‏"‏ وهذا ليس بشيء

لأنه قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ‏"‏

ومما عبته على البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان في قصيدته المشهورة عند لقائه الأسد

التي مطلعها‏:‏

أجدك ما ينفك يسري لزينبا

فقال‏:‏

شهدت لقد أنصفته حين تنبري له مصلتا عضبا من البيض مقضبا

فلم أر ضرغامين أصدق منكما عراكا إذا الهيابة النكس كذبا

قوله ‏"‏ إذا الهيابة النكس ‏"‏ تفريط في المدح بل كان الأولى أن يقول‏:‏ إذا البطل كذب وإلافأي

مدح في إقدام المقدم في الموضع الذي يفر منه الجبان وألا قال كما قال أبو تمام‏:‏

فتى كلما أرتاد الشجاع من الردى مفرا غداة المأزق ارتاد مصرعا

وعلى أسلوب البحتري ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة‏:‏

وإني لقوال لعافي مرحباً وللطالب المعروف إنك واجده

وإني لمن أبسط الكف بالندى إذا شنجت كف البخيل وساعده

وهذا معيب من جهة أنه لا فضل في بسط يده عند قبض يد البخيل وإنما الفضيلة في بسطها

عند قبض الكرام أيديهم‏.‏

ومن هذا الباب قول أبي تمام‏:‏

يقظ وهو أكثر الناس إغضا - - ء على نائل له مسروق

فإنه أراد أن يمدح فذم‏.‏

ومما هو أقبح من ذلك قوله أيضا‏:‏

تثفى الحرب منه حين تغلي مراجلها بشيطان رجيم

وقد استعمل هذا في شعره حتى أفحش كقوله

ومراده من ذلك أنه جعله سببا لعطاء المشار إليه كما أن الدلو سبب في امتياج الماء من

القليب ولم يبلغ هذا المعنى من الإغراب إلى حد يدندن أبو تمام حوله هذه الدندنة ويلقيه في

هذا المثال السخيف على أنه لم يقنع بهذه السقطة القبيحة في شعره بل أوردها في مواضع

أخرى منه فمن ذلك قوله‏:‏

ما زال يهذي بالمكارم والعلا حتى ظننا أنه محموم

فإنه أراد أن يبالغ في ذكر الممدوح باللهج بالمكارم والعلا فقال ‏"‏ ما زال يهذي ‏"‏ وما أعلم

ماكانت حاله عند نظم هذا البيت‏:‏

وعلى نحو منه جاء قول بعض المأخرين‏:‏

ويلحقه عند المكارم هزة كما انتفض المجهود من أم ملدم

وهذا وأمثاله لايجوز استعماله وإن كان المعنى المقصود به حسنا وكم ممن يتأول معنى كريما

فأساء في التعبير عنه حتى صار مذموما كهذا وأمثاله‏.‏

ومن أحسن ما قيل في مثل هذا الموضع قول ابن الرومي‏:‏

ذهب الذين تهزهم مداحهم هز الكماة عوالي المران

كانوا إذا مدحوا رأوا ما فيهم فالأريحية منهم بمكان

ووجدت أبا بكر محمد بن يحيى المعروف بالصولي قد عاب على حسان بن ثابت رضي الله

عنه قوله‏:‏

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسياقنا يقطرن من نجدة دما

وقال إنه جمع الجفنات والأسياف جمع قلة وهو في مقام فخر وهذا مما يحط من المعنى ويضع

منه وقد ذهب إلى هذا غيره أيضا وليس بشيء لأن الغرض إنما هو الجمع فسواء أكان جمع

قلة أم جمع كثرة ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من

المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ‏"‏ أفترى نعم الله أكانت قليلة على

إبراهيم صلوات الله عليه وكذلك ورد قوله عز وجل في سورة النمل‏:‏ ‏"‏ وأدخل يدك في جيبك

تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين‏.‏

فلما جاءتهم

آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين‏.‏

وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف

كان عاقبة المفسدين ‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏ واستيقنتها أنفسهم ‏"‏ فجمع النفس جمع قلة وما كان قوم فرعون

بالقليل حتى تجمع نفوسهم جمع قلة بل كانوا مئين ألوفا وهذا أيضاً مما يبطل قول الصولي وغيره

في مثل هذا الموضع وكذلك ورد قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ‏"‏ والنفوس المتوفاة والنائمة لا ينتهي إلى كثرتها كثرة لأنها نفوس كل من في العالم‏.‏

واعلم أن للمدح ألفاظا تخصه وللذم ألفاظا تخصه وقد تعمق قوم في ذلك حتى قالوا‏:‏ من

الأدب ألا تخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب وهذا غلط بارد فإن الله الذي هو ملك

الملوك قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ وقد ورد أمثال هذا في مواضع من القرآن الكريم غير محصورة إلا أني قد راجعت نظري في ذلك فرأيت الناس بزمانهم أشبه منهم بأيامهم والعوائد لا حكم لها ولا شك أن العادة أوجبت للناس مثل هذا التعمق في ترك الخطاب بالكاف لكني تأملت أدب الشعراء والكتاب في هذا الموضع فوجدت الخطاب لا يعاب في الشعر ويعاب في الكتابة إذا كان المخاطب دون المخاطب درجة وأما إن

كان فوقه فلا عيب في خطابه إياه بالكاف لأنه ليس من التفريط في شيء‏.‏

فمن خطب الكاف قول النابغة‏:‏

وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وكذلك قوله أيضا‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

وعليه جاء قول بعض المتأخرين أيضا فقال أبو نواس‏:‏

إليك أبا المنصور عذبت ناقتي زيارة خل وامتحان كريم

وكذلك ورد قول السلامي‏:‏

إليك طوى عرض البسيطة جاعل قصارى المطايا أن يلوح لها القصر

وبشرت آمالي بملك هو الورى ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

وعليه ورد قول البحتري‏:‏

ولقد أتيتك طالبا فبسطت من أملي وأطلب جود كفك مطلبي

وجل خطاب الشعراء للممدوحين إنما هو بالكاف وذلك محظور على الكتاب فإنه ليس من

الأدب عندهم أن يخاطب الأدنى الأعلى بالكاف وإنما يخاطبه مخاطبة الغائب لا مخاطبة

الحاضر على أن هذا الباب بجملته يوكل النظر فيه إلى فطانة الخطيب والشاعر وليس مما يوقف فيه على المسموع خاصة‏.‏

ومن ألطف ما وجدته أنك إذا خاطبت الممدوح أن تترك الخطاب بالأمر بأن تقول‏:‏ افعل كذا

وكذا وتخرجه مخرج الاستفهام وهذا الأسلوب حسن جدا وعليه مسحة من جمال بل عليه

الجمال كله‏.‏ فما جاء منه قول البحتري في قصيدة أولها‏:‏

فهل أنت يا ابن الراشدين مختمي بياقوتة تبهى علي وتشرق

وهذا من الأدب الحسن في خطاب الخليفة فإنه لم يخاطبه بأن قال‏:‏ ختمني بياقوتة على سبيل

الأمر بل خاطبه على سبيل الاستفهام وقد أعجبني هذا المذهب وحسن عندي‏.‏

وقد حذا حذو البحتري شاعر من شعراء عصرنا فقال في مدح الخليفة الناصر لدين الله أبي

العباس أحمد من قصيدة له على قافية الدال فقال من أبيات يصف بها قصده‏:‏

أمقبولة يا ابن الخلائف من فمي لديك بوصفي غادة الشعر رؤده

فقوله ‏"‏ أمقبولة ‏"‏ من الأدب الحسن الذي نسج فيه على منوال البحتري‏.‏

وهذا باب مفرد وهو باب الاستفهام في الخطاب وإذا كان الشاعر فطنا عالما بما يضعه من

الألفاظ والمعاني تصرف في هذا الباب بضروب التصرفات واستخرج من ذات نفسه شيئا لم

يسبقه إليه أحد‏.‏

واعلم أن من المعاني ما يعبر عنه بألفاظ متعددة ويكون المعنى المندرج تحتها واحدا فمن تلك

الألفاظ ما يليق استعماله بالمدح ومنها ما يليق استعماله بالذم ولو كان هذا الأمر يرجع إلى

المعنى فقط لكانت جميع الألفاظ الدالة عليه سواء في الاستعمال وإنما يرجع في ذلك إلى العرف دون الأصل‏.‏

ولنضرب له مثالا فنقول‏:‏ هل يجوز أن يخاطب الملك فيقال له‏:‏ وحق دماغك قياسا على وحق

رأسك وهذا يرجع إلى أدب النفس دون أدب الدرس‏.‏

فإذا أراد مؤلف الكلام أن يمدح ذكر الرأس والهامة والكاهل وما جرى هذا المجرى فإذا أراد

أن يهجو ذكر الدماغ والقفا والقذال وما جرى هذا المجرى وإن كانت معاني الجميع متقاربة

ومن أجل ذلك حسنت الكناية في الموضع الذي يقبح فيه التصريح‏.‏

ومن أحسن ما بلغني من أدب النفس في الخطاب أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل قباث

بن أشيم فقال له‏:‏ أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله

عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد فانظر إلى أدب هذا العربي الذي من شأنه وشأن

أمثاله جفاء الخلق والبعد عن فطانة الآداب‏.‏

وأما الإفراط فقد ذمه قوم من أهل هذه الصناعة وحمده آخرون والمذهب عندي استعماله

فإن أحسن الشعر أكذبه بل أصدقه أكذبه لكنه تتفاوت درجاته فمنه المستحسن الذي عليه

مدار الاستعمال ولا يطلق على الله سبحانه وتعالى لأنه مهما ذكر به من المعاملات في صفاته

فإنه دون ما يستحقه‏.‏

ومما ورد من ذلك في الشعر قول عنترة‏:‏

وقد يروى بالياء وكلا المعنيين حسن إلا أن الياء أكثر غلوا‏.‏

ومما جاء على نحو من ذلك قول بشار‏:‏

إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

ومنه ما يستهجن كقول النابغة الذبياني‏:‏

إذا ارتعشت خاف الجبان رعاثها ومن يتعلق حيث غلق يفرق

وهذا يصف طول قامتها لكنه من الأوصاف المنكرة التي خرجت بها المغالاة عن حيز

الاستحسان‏.‏ وكذلك ورد قول أبي نواس‏:‏

وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق

وهذا أشد إفراطا من قول النابغة‏.‏

ويروى أن العتابي لقي أبا نواس فقال له‏:‏ أما استحييت الله

حيث تقول وأنشده البيت فقال له‏:‏ وأنت ما راقبت الله حيث قلت‏:‏

ما زلت في غمرات الموت مطرحا يضيق عني وسيع الرأي من حيلي

فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي حتى اختلست حياتي من يدي أجلي

قال له العتابي‏:‏ قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك ولكنك قد أعددت لكل ناصح

كدت منادمة الدماء سيوفه فلقلما تحتازها الأجفان

حتى الذي في الرحم لم يك صورة لفؤاده من خوفه خفقان

وما يجيء في هذا الباب ما يجري هذا المجرى‏.‏

وقد استعمل أبو الطيب المتنبي هذا القسم في شعره كثيرا فأحسن في مواضع منه فمن ذلك

قوله‏:‏

عجاجا تعثر العقبان فيه كأن الجو وعث أو خبار

ثم أعاد هذا المعنى في موضع آخر فقال‏:‏

عقدت سنابكها عثيراً لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا

وهذا أكثر مغالاة من الأول‏.‏

ومن ذلك قوله أيضا‏:‏

كأنما تتلقاهم لتسلكهم فالطعن يفتح في الأجواف ما يسع

وعلى هذا ورد قول قيس بن الخطيم‏:‏

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها

لكن أبو الطيب أكثر غلوا في هذا المعنى وقيس بن الخطيم أحسن لأنه قريب من الممكن فإن

الطعنة تنفذ حتى يتبين فيها الضوء وأما أن يجعل المطعون مسلكا يسلك كما قال أبو الطيب

فإن ذلك مستحيل ولا يقال فيه بعيد‏.‏

وأما الاقتصاد فهو وسط بين المنزلتين والأمثلة به كثيرة لا تحصى إذ كل ما خرج عن الطرفين من الإفراط والتفريط فهو اقتصاد ومن أحسنه أن يجعل الإفراط مثلا ثم يستثنى فيه بلو أو بكاد وما جرى مجراهما فمن ذلك قوله تعالى ‏"‏ يكاد البرق يخطف أبصارهم ‏"‏ وكذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ‏"‏ وقد ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا ومما ورد منه شعرا قول الفرزدق‏:‏

يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وكذلك ورد قول البحتري‏:‏

لو أن مشتاقا تكلف فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر

وهذا هو المذهب المتوسط‏.‏

  النوع السادس والعشرون في الاشتقاق

اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس وليس الأمر كذلك بل التجنيس

أمر عام لهذين النوعين من الكلام وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم‏:‏ جانس الشيء

الشيء إذا ماثله وشابهه ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في

صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل

ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضا فالتجنيس إذن ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما

تجنيس في اللفظ والآخر تجنيس في المعنى فأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه وقد تقدم باب الصناعة اللفظية وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس وسمي الاشتقاق‏:‏ أي أحد المعنيين مشتق من الآخر‏.‏

وهو على ضربين‏:‏ صغير وكبير‏.‏

فالصغير‏:‏ أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه كترتيب

س ل م فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه نحو سلم وسالم وسلمان وسلمى والسليم

اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة‏.‏

والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولاً لمسمى أول ثم يجد مسمى آخر أو مسميات

شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول كقوله ضرير اسم للأعمى والضر‏:‏ ضد

النفع والضراء‏:‏ الشدة من الأمر والضر بالضم‏:‏ الهزال وسوء الحال والضرر‏:‏ الضيق والضرة‏:‏

إحدى الزوجتين فإن هذه المسميات كلها تدل على الأذى والشر وأسماؤها متشابهة لم تخرج

عن الضاد والراء إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني أنه مشتق منه

لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامة لأنه ضدها قيل‏:‏ من أجل التفاؤل بالسلامة

وعلى هذا جاء غيره من الأصول كقولنا‏:‏ هشمك هاشم وحاربك محارب وسالمك سالم

وأصاب الأرض صيب فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحد أما هاشم فإنه لم يسم

بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك وأما محارب فإنه اسم فاعل من

حارب فهو محارب وأما سالم فمن السلامة وهو اسم فاعل من سلم وأما الصيب فهو المطر

الذي يشتد صوبه‏:‏ أي وقعه على الأرض ولا يقاس على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم

‏:‏ ‏"‏ أسلم سالمها الله وغفار غفر الله وعصية عصت الله ‏"‏ فإن أسلم وغفار وعصية أسماء

قبائل ولم تسم أسلم من المسالمة ولا غفار من المغفرة ولا عصية من تصغير عصا وهذا هو

التجنيس وليس بالاشتقاق والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس

بالاشتقاق‏.‏ ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري‏:‏

وكذلك قول الآخر‏:‏

وما زال معقولا عقال عن الندى وما زال محبوسا عن الخير حابس

وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيس حيث قيل فيه‏:‏ معقول وعقال ومحبوس

وحابس وليس الأمر كذلك وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيراً على من لم يتقن معرفته‏.‏

وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي‏:‏ اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وعقال ومعقول وحابس

ومحبوس اللفظ فيهما واحد والمعنى أيضاً واحد فهذا مشتق من هذا‏:‏ أي قد شق منه‏.‏

وكذلك ورد قول عنترة‏:‏

لقد علم القبائل أن قومي لهم حد إذا لبس الحديد

فإن حدا وحديدا لفظهما واحد ومعناهما واحد‏.‏

وأما الاشتقاق الكبير فهو‏:‏ أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا

يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل

إليها‏.‏

ولنضرب لذلك مثالا فنقول‏:‏ إن لفظة ‏"‏ ق م ر ‏"‏ من الثلاثي لها ست تراكيب وهي‏:‏ ق ر م

ق م ر ر ق م ر م ق م ق ر م ر ق فهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد وهو القوة

والشدة فالقرم‏:‏ شدة شهوة اللحم وقمر الرجل إذا غلب من يقامره والرقم‏:‏ الداهية وهي

الشدة التي تلحق الإنسان من دهره وعيش مرمق‏:‏ أي ضيق وذلك نوع من الشدة أيضا والمقر‏:‏

شبه الصبر يقال‏:‏ أمقر الشيء إذا أمر وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة ومرق السهم إذا

نفذ من الرمية وذلك لشدة مضائه وقوته‏.‏

واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق لأن الاشتقاق ليس من

شرطه كمال تركيب الكلمة بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها

وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة ‏"‏ و س ق ‏"‏

فإن لها خمس تراكيب وهي‏:‏ و س ق و ق س س و ق ق س و ق و س وسقط من

جملة التراكيب قسم واحد وهو س ق و وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضا

فالوسق من قولهم‏:‏ استوسق الأمر‏:‏ أي اجتمع وقوي والوقس‏:‏ ابتداء الجرب وفي ذلك شدة

على من يصيبه وبلاء والسوق‏:‏ متابعة السير وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق

والقسوة‏:‏ شدة القلب وغلظه والقوس معروفة وفيها نوع من الشدة والقوة لنزعها السهم

وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد‏.‏

واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة بل قد جاء شيء منها كذلك وهذا مما يدل

على شرفها وحكمتها لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب وهي مع ذلك دالة

على معنى واحد وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها فاعرفه‏.‏

إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير وسبب ذلك أن

الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا

وأيضا فإن الحسن اللفظ الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير ولا يقع في الاشتقاق

الكبير ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين ههنا وهما ‏"‏ ق ر م ‏"‏ و ‏"‏ و س ق ‏"‏ إذا نظرنا إلى

تراكيبهما وأردنا أن نسبكهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا

ورونقا لأن ذاك لفظه لفظ تجنيس ومعناه معنى اشتقاق والاشتقاق الكبير ليس كذلك‏.‏

  النوع السابع والعشرون في التضمين

وهذا النوع فيه نظر بين حسن يكتسب به الكلام طلاوة وبين معيب عند قوم وهو عندهم

معدود من عيوب الشعر ولكل من هذين القسمين مقام‏.‏

فأما الحسن الذي يكتسب به الكلام طلاوة فهو‏:‏ أن يضمن الآيات والأخبار النبوية وذلك يرد

فأما التضمين الكلي فهو‏:‏ أن تذكر الآية والخبر بجملتهما وأما التضمين الجزئي فهو‏:‏ أن تدرج

بعض الآية والخبر في ضمن كلام فيكون جزأ منه كالذي أوردته في حل الآيات والأخبار في

الفصل العاشر من مقدمة الكتاب وقد قيل‏:‏ إنه لا يجوز درج آيات القرآن الكريم في غضون

الكلام من غير تبيين كي لا يشتبه وهذا القول لا أقول به فإن القرآن الكريم أبين من أن يحتاج

إلى بيان وكيف يخفى وهو المعجز الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون

بمثله فإن كانت المفاوضة في التفرقة بينه وبين غيره من الكلام إذا أدرج فيه مع جاهل لا يعرف الفرق فذاك لا كلام معه وإن كان الكلام مع عالم بذلك فذاك لا يخفي عنه القرآن الكريم من غيره‏.‏

ومذهبي في هذا هو ما تقدم ذكره في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب وهو أحسن الوجهين

عندي وذاك أنه لا تؤخذ الآية بكمالها بل يؤخذ جزء منها ويجعل أولاً لكلام أو آخرا هذا إذا

لم يقصد به التضمين فأما إذا قصد التضمين فتؤخذ الآية بكمالها وتدرج درجا وهذا ينكره

من لم يذق ما ذقته من طعم البلاغة ولا رأى ما رأيته‏.‏

وأما المعيب عند قوم فهو تضمين الإسناد وذلك يقع في بيتين من الشعر أو فصلين من الكلام

المنثور على أن يكون الأول منهما مسندا إلى الثاني فلا يقوم الأول بنفسه ولا يتم معناه إلا

بالثاني وهذا هو المعدود من عيوب الشعر وهو عندي غير معيب لأنه إن كان سبب عيبه أن

يعلق البيت الأول على الثاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبا إذ لا فرق بين البيتين من الشعر في

تعلق أحدهما بالآخر وبين الفقرتين من الكلام المنثور في تعلق إحداهما بالأخرى لأن الشعر هو‏:‏

كل لفظ موزون مقفى دل على معنى والكلام المسجوع هو‏:‏ كل لفظ مقفى دل على معنى

فالفرق بينهما يقع في الوزن لا غير‏.‏

والفقر المسجوعة التي يرتبط بعضها ببعض قد وردت في القرآن الكريم في مواضع منه فمن

ذلك قوله عز و جل في سورة الصافات‏:‏ ‏"‏ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏

قال قائل منهم إني

كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ‏"‏ فهذه الفقر الثلاث الأخيرة مرتبط بعضها ببعض فلا تفهم كل واحدة منهن إلا بالتي تليها وهذا كالأبيات الشعرية في ارتباط بعضها ببعض ولو كان عيبا لما ورد في كتاب الله عز وجل‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى في سورة الصافات أيضا‏:‏ ‏"‏ فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا

من هو صال الجحيم ‏"‏ فالآيتان الأوليان لا تفهم إحداهما إلا بالأخرى‏.‏

وهكذا ورد قوله عز وجل في سورة الشعراء‏:‏ ‏"‏ أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا

يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ‏"‏ فهذه ثلاث آيات لا تفهم الأولى ولا الثانية إلا بالثالثة ألا ومما ورد من ذلك شعرا قول بعضهم‏:‏

ومن البلوى التي لي - - س لها في الناس كنه

أن من يعرف شيئا يدعي أكثر منه

ألا ترى أن البيت الأول لم يقم بنفسه ولا تم معناه إلا بالبيت الثاني‏:‏

وقد استعمله العرب كثيرا وورد في شعر فحول شعرائهم فمن ذلك قول امرئ القيس‏:‏

فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وكذلك ورد قول الفرزدق‏:‏

وما أحد من الأقوام عدوا عروق الأكرمين إلى التراب

بمحتفظين إن فضلتمونا عليهم في القديم ولا غضاب

وكذلك ورد قول بعض شعراء الحماسة‏:‏

لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب

من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى جزيل ولم يخبرك مثل مجرب

الضرب الثاني من التضمين‏:‏ وهو أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاما آخر لغيره قصداً

للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود ولو لم يذكر ذلك التضمين لكان المعنى تاما وربما ضمن

الشاعر البيت من شعره بنصف بيت أو أقل منه كما قال جحظة‏:‏

قم فاسقينها يا غلام وغنني ذهب الذين يعاش في أكنافهم

ألا ترى أنه لو لم يقل في هذا البيت ‏"‏ ذهب الذين يعاش في أكنافهم ‏"‏ لكان المعنى تاما لا يحتاج

إلى شيء آخر فإن قوله‏:‏ ‏"‏ قم فاسقينها يا غلام وغنني ‏"‏ فيه كفاية إذ لا حاجة له إلى تعيين الغناء لأن في ذلك زيادة على المعنى المفهوم لا على الغرض المقصود‏.‏

وقد ورد هذا في عدة مواضع من شعر أبي نواس في الخمريات كقوله في مخاطبة بعض خلطائه على مجلس الشراب‏:‏

فقلت هل لك في الصهباء تأخذها من كف ذات حر فالعيش مقتبل

حيرية كشعاع الشمس صافية تطير بالكأس من لألائها شعل

فقال هات وغنينا على طرب ودع هريرة إن الركب مرتحل

وكذلك قوله أيضا‏:‏

وظبي خلوب اللفظ حلو كلامه مقبله سهل وجانبه وعر

نحلت له منها فخر لوجهه وأمكن منه ما يحيط به الأزر

إلى أن تجلى نومه عن جفونه وقال كسبت الذنب قلت لي العذر

فأعرض مزورا كأن بوجهه تفقؤ رمان وقد برد الصدر

فما زلت أرقيه وألثم خده إلى أن تغنى راضيا وبه سكر

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر

وقد استعمل هذا الضرب كثيراً الخطيب عبد الرحمن بن نباتة رحمه الله فمن ذلك قوله في

بعض خطبه وهو‏:‏ فيأيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون فما لكم منه لا

تشفقون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون‏.‏

وكذلك قوله في ذكر يوم القيامة وهو‏:‏ فيومئذ تغدو الخلائق على الله بهما فيحاسبهم على ما

أحاط به علما وينفذ في كل عامل بعمله حكما وعت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل

ظلما‏.‏

ألا ترى إلى براعة هذا التضمين الذي كأنه قد رصع في هذا الموضع رصعا‏.‏

وعلى نحو من ذلك جاء قوله في ذكر يوم القيامة وهو‏:‏ هناك يقع الحساب على ما أحصاه الله

كتابا وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من

أذن له الرحمن وقال صوابا‏.‏

ومما ينتظم بهذا السلك قوله في خطبة أخرى وهو‏:‏ أسكتهم الله الذي أنطقهم وأبادهم الذي

خلقهم وسيجدهم كما أخلقهم ويجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا ويجعل

الظالمين لنار جهنم وقودا يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا يوم

تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا‏.‏

ومن هذا الباب قوله أيضا‏:‏ هنالك يرفع الحجاب ويوضع الكتاب ويجمع من وجب له الثواب

ومن حق عليه العقاب فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب‏.‏ وأمثال هذه التضمينات في خطبه كثيرة وهي من محاسن ما يجيء في هذا النوع‏.‏

  النوع الثامن والعشرون في الإرصاد

وحقيقته‏:‏ أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية قد أرصدها له‏:‏ أي أعدها في نفسه

فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته‏.‏

وذلك من محمود الصنعة فإن خير الكلام ما دل بعضه على بعض وفي الافتخار بذلك يقول

ابن نباتة السعدي‏:‏

ينسى لها الراكب العجلان حاجته ويصبح الحاسد الغضبان يطريها

فمن هذا الباب قول النابغة‏:‏

فداء لامريء سارت إليه بعذرة ربها عمي وخالي

ولو كفي اليمين بغتك خونا لأفردت اليمين عن الشمال

ألا ترى أنه يعلم إذا عرفت القافية في البيت الأول أن في البيت الثاني ذكر الشمال‏.‏

وكذلك جاء قول البحتري‏:‏

أحلت دمي من غير جرم وحرمت بلا سبب يوم اللقاء كلامي

فليس الذي حللته بمحلل ليس الذي حرمته بحرام

فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثاني أن عجزه هو ما قاله

البحتري‏.‏

وقد جاء الإرصاد في الكلام المنثور كما جاء في الشعر فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ‏"‏ فإذا وقف السامع على قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لقضي بينهم فيما فيه ‏"‏ عرف أن بعده ‏"‏ يختلفون ‏"‏ لما تقدم من الدلالة عليه‏.‏

ومن ذلك أيضاً قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة

ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏"‏

على نحو منه جاء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ‏"‏ فإذا وقع السامع على قوله عز وجل ‏"‏ وإن أوهن البيوت ‏"‏ يعلم

أن بعده بيت العنكبوت‏.‏

ورأيت أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع التوشيح وليس كذلك بل تسميته بالإرصاد

أولى وذلك حيث ناسب الاسم مسماه ولاق به وأما التوشيح فإنه نوع آخر من علم البيان

وسيأتي ذكره بعد هذا النوع إن شاء الله تعالى، واعلم أنه قد اختلف جماعة من أرباب هذه الصناعة في تسمية أنواع علم البيان حتى إن أحدهم يضع لنوع واحد منه اسمين اعتقادا منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان وليس الأمر كذلك بل هما نوع واحد‏.‏

فممن غلط في ذلك الغانمي فإنه ذكر بابا من أبواب علم البيان وسماه التبليغ وقال‏:‏ هو أن يأتي

الشاعر بالمعنى في البيت تاما من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها حتى يتم وزنه فيبلغ بذلك الغاية القصوى في الجودة كقول امرئ القيس‏:‏

فإنه أتى بالتشبيه تاما قبل القافية ثم لما جاء بها بلغ الأمد الأقصى في المبالغة‏.‏

ثم إن الغانمي ذكر بعد هذا الباب بابا آخر وسماه الإشباع فقال‏:‏ هو أن يأتي الشاعر بالبيت

معلق القافية على آخر أجزائه ولا يكاد يفعل ذلك إلا حذاق الشعراء وذاك أن الشاعر إذا كان

بارعا جلب بقدرته وذكائه وفطنته إلى البيت وقد تمت معانيه واستغنى عن الزيادة فيه قافية

متممة لأعاريضه ووزنه فجعلها نعتا للمذكور كقول ذي الرمة‏:‏

قف العيس في أطلال مية فاسأل رسوما كأخلاق الرداء المسلسل

هذا كلام الغانمي بعينه‏.‏

والبابان المذكوران سواء لا فرق بينهما بحال والدليل على ذلك أن بيت امريء القيس يتم

معناه قبل أن يؤتى بقافيته وكذلك بيت ذي الرمة ألا ترى أن امرأ القيس لما قال‏:‏

كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع‏.‏

أتى بالتشبيه أيضاً قبل أن يأتي بالقافية ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي قوله

‏"‏ لم يثقب ‏"‏ وهكذا ذو الرمة فإنه لما قال‏:‏

قف العيس في أطلال مية فاسأل رسوما كأخلاق الرداء‏.‏

أتى بالتشبيه أيضاً قبل أن يأتي بالقافية ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي ‏"‏ المسلسل‏"‏‏.‏

واعلم أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين القسمين بعينهما الإيغال وقال‏:‏ هو أن يستوفي

الشاعر معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ثم يأتي بالمقطع فيزيد فيه معنى آخر وأصل الإيغال

من أوغل في الأمر إذا أبعد الذهاب فيه ثم مثل أبو هلال ذلك بقول ذي الرمة‏:‏

قف العيس في أطلال مية فاسأل‏.‏

البيت

وهذا أقرب أمرا من الغانمي لأنه ذكره في باب واحد وسماه باسم واحد ولم يذكره في باب

آخر كما فعل الغانمي وليس الأخذ على الغانمي في ذلك مناقشة على الأسماء وإنما المناقشة

على أن ينتصب لإيراد علم البيان وتفصيل أبوبه ويكون أحد الأبواب التي ذكرها داخلا في الآخر فيذهب عليه ويخفى عنه وهو أشهر من فلق الصباح‏.‏

وههنا ما هو أغرب من ذاك وذلك أنه قد سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقا خارجة

عن موضوع علم البيان وهي بنجوة عنه لأنهت في واد وعلم البيان في واد‏.‏

فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقامات فإنه ذكر تلك الرسالة التي هي كلمة معجمة وكلمة

مهملة والرسالة التي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم ونظم غيره شعرا آخر كل بيت منه أول للبيت الذي يليه وكل هذا وإن تضمن مشقة من الصناعة فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها على ما أشرت إليه في مقدمة كتابي هذا وكذلك البلاغة فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني من قولنا بلغت المكان إذا انتهيت إليه وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسالته وأورده ذلك الشاعر

في شعره لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة وسبب ذلك أنها تستكره

استكراها وتوضع في غير مواضعها وكذلك ألفاظه فإنها تجيء مكرهة أيضاً غير ملائمة

لأخواتها وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني فإذا خرج عنه شيء من

هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه ولا داخلا في بابه ولو كان ذلك مما يوصف

بحسن ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عز وجل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة أو ورد في كلام العرب الفصحاء ولم نره في شيء من أشعارهم ولا خطبهم‏.‏

ولقد رأيت رجلا أديبا من أهل المغرب وقد تغلغل في شيء عجيب وذاك أنه شجر شجرة

ونظمها شعرا وكل بيت من ذلك الشعر يقرأ على ضروب من الأساليب اتباعا لشعب تلك

الشجرة وأغصانها فتارة تقرأ كذا وتارة تقرأ كذا وتارة يكون جزء منه ههنا وتارة ههنا

وتارة يقرأ مقلوبا وكل ذلك الشعر وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان والأولى به

وبأمثاله أن يلحق بالشعبذة والمعالجة والمصارعة لا بدرجة الفصاحة والبلاغة‏.‏

ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي قد ذكر بابا من الأبواب في كتابه فقال‏:‏ ينبغي ألا

تستعمل المنظوم والمنثور ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم ولا الألفاظ التي تختص بها بعض المهن والعلوم لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة ثم مثل ذلك بقول أبي تمام‏:‏

مودة ذهب أثمارها شبه وهمة جوهر معروفها عرض وبقوله أيضا‏:‏

خرقاء يلعب بالعقول حبابها كتلعب الأفعال بالأسماء

وهذا الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة‏:‏

إن الذي تكرهون منه هو الذي يشتهيه قلبي

وسأبين فساد ما ذهب إليه فأقول‏:‏ أما قوله ‏"‏ إنه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلم

في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة ‏"‏ فهذا مسلم إليه ولكنه

شذ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعة لأنها موضوعة على

الخوض في كل معنى وهذا لا ضابط له يضبطه ولا حاصر يحصره فإذا أخذ مؤلف الشعر أو

الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني وأداه ذلك إلى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو

حسابي أو غير ذلك فليس له أن يتركه ويحيد عنه لأنه من مقتضيات هذا المعنى الذي قصده

فإن يك جرم عن أو تك هفوة على خطأ مني فعذري على عمد فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنب وكان ينبغي له على ما ذكره ابن سنان أن يترك ذلك ولا يستعمله حيث فيه لفظتا ‏"‏ الخطأ ‏"‏ و ‏"‏ العمد ‏"‏ اللتان هما من أخص ألفاظ الفقهاء‏.‏

وكذلك قول أبي الطيب المتنبي‏:‏

ولقيت كل الفاضلين كأنما رد الإله نفوسهم والأعصرا

نسقوا لنا نسق الحساب مقدما وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا

وهذا من المعاني البديعة وما كان ينبغي لأبي الطيب أن يأتي في مثل هذا الموضع بلفظة

‏"‏ فذلك ‏"‏ التي هي من ألفاظ الحساب بل كان يترك هذا المعنى الشريف الذي لا يتم إلا بتلك

اللفظة موافقة لابن سنان فيما رآه وذهب إليه وهذا محض الخطأ وعين الغلط‏.‏

وأما ما أنكره على أبي تمام في قوله‏:‏

مودة ذهب أثمارها شبه وهمة جوهر معروفها عرض

فإن هذا البيت ليس منكرا لما استعمل فيه من لفظتي الجوهر والعرض اللتين هما من خصائص

ألفاظ المتكلمين بل لأنه في نفسه ركيك لتضمنه لفظة ‏"‏ الشبه ‏"‏ فإنها لفظة عامية ركيكة وهي

التي أسخفت بالبيت بجملته ورب قليل أفسد كثيرا وأما لفظتا الجوهر والعرض فلا عيب

فيهما ولا ركاكة عليهما‏.‏

وأما البيت الآخر وهو‏:‏

خرقاء يلعب بالعقول حبابها كتلعب الأفعال بالأسماء

فليس بمنكر وهل يشك في أن التشبيه الذي تضمنه واقع في موقعه ألا ترى أن الفعل ينقل

الاسم من حال إلى حال وكذلك تفعل الخمر بالعقول في تنقل حالاتها فما الذي أنكره ابن سنان

من ذلك وقد جاء لبعض المتأخرين من هذا الأسلوب ما لا يدافع في حسنه وهو قوله‏:‏

عوامل رزق أعربت لغة الردى فجسم له خفض ورأس له نصب

فإنه لما حصل له المشابهة في الاسمية بين عوامل الرماح والعوامل النحوية حسن موقع ما ذكره من الخفض والنصب وعلى ما ذكره ابن سنان فإن ذلك غير جائز وهو من مستحسنات المعاني هذا من أعجب الأشياء‏.‏

وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم‏:‏

وفتى من ازن فاق أهل البصره

وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته

وكذلك ورد من هذا النوع في شعر بعض العراقيين يهجو طبيبا فقال‏:‏

قال حمار الطبيب توما لو أنصفوني لكنت أركب

لأنني جاهل بسيط وراكبي جهله مركب

وهذا من المعنى الذي أغرب في الملاحة وجمع بين خفة السخرية ووقار الفصاحة‏.‏

وقد تقدم القول في صدر كتابي هذا أنه يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتعلق بكل علم وكل صناعة ويخوض في كل فن من الفنون لأنه مكلف بأن يخوض في كل معنى من المعاني فاضمم يدك على ما ذكرته ونصصت عليه واترك ما سواه فليس القائل بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده

وهذا النوع إذا استعمل على الوجه المرضي كان حسنا وإذا استعمل بخلاف ذلك كان قبيحا

كما جاء كلام أبي العلاء بن سليمان المعري وهو قوله في رسالة كتبها إلى بعض إخوانه‏:‏ حرس الله سعادته ما أدغمت التاء في الظاء وتلك سعادة بغير انتهاء وهذا من الغث البارد لكن

قد جاءه في الشعر ما هو حسن فائق كقوله‏:‏

فدونكم خفض الحياة فإننا نصبنا المطايا في الفلاة على القطع

والخفض والنصب من الإعراب النحوي والخفض‏:‏ رفاهة العيش والقطع‏:‏ من منصوبات النحو والقطع‏:‏ قطع الشيء يقال‏:‏ قطعته إذا بترته‏.‏

  النوع التاسع والعشرون في التوشيح

وهو أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعرا مستقيما من بحر على عروض وإذا أضاف إلى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى كان أيضاً شعرا مستقيما من بحر آخر على عروض وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح وكذلك يجري الأمر في الفقرتين من الكلام المنثور فإن كان فقرة منهما تصاغ من سجعتين‏.‏

وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا وليس من الحسن في شيء واستعماله في الشعر أحسن منه في

الكلام المنثور فمن ذلك قول بعضهم‏:‏

اسلم ودمت على الحوادث ما رسا ركنا ثبير أو هضاب حراء

ونل المراد ممكنا منه على رغم الدهور وفز بطول بقاء

وهذا من الجيد الذي يأتي في هذا النوع إلا أن أثر التكلف عليه باد ظاهر وإذا نظر إلى هذين

البيتين وجدا وهما يذكران على قافية أخرى وبحر آخر وذاك أن يقال‏:‏

اسلم ودمت على الحوا - دث مارسا ركنا ثبير

ونل المراد ممكنا منه على رغم الدهور

وقد استعمل ذلك الحرير في مقاماته نحو قوله‏:‏

يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا بعدا لها من دار

وإذا أظل سحابها لم ينتفع منه صدى لجهامه الغرار

واعلم أن هذا النوع لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم وحسنه

منوط بما فيه من الصناعة لا بما فيه من البراعة ألا ترى أنه لو نظم عليه قصيد من أوله إلى

آخره يتضمن غزلا ومديحا على ما جرت به عادة القصائد أليس أنه كان يجيء باردا غثا لا

يسلم منه على محك النظر عشره والعشر كثير وما كان على هذه الصورة من الكلام فإنما

يستعمل أحيانا على الطبع لا على التكلف وهو وأمثاله لا يحسن إلا إذا كان يسيرا كالرقم في

الثوب أو الشية في الجلد‏.‏

في السرقات الشعرية

ولربما اعترض معترض في هذا الموضوع فقال‏:‏ قد تقدم نثر الشعر في أول الكتاب وهو أخذ

الناثر من الناظم ولا فرق بينه وبين أخذ الناظم من الناظم فلم يكن إلى ذكر السرقات الشعرية

إذن حاجة‏.‏

ولو أنعم هذا المعترض نظره لظهر له الفرق وعلم أن نثر الشعر لم يتعرض فيه إلى

وجوه المأخذ وكيفية التوصل إلى مدخل السرقات وهذا النوع يتضمن ذكر ذلك مفصلا‏.‏

واعلم أن الفائدة من هذا النوع أنك تعلم أين تضع يدك في أخذ المعاني إذ لا يستغني الآخر عن

الاستعارة من الأول لكن لا ينبغي لك أن تعجل في سبك اللفظ على المعنى المسروق فتنادي

على نفسك بالسرقة فكثيرا ما رأينا من عجل في ذلك فعثر وتعاطى فيه البديهة فعقر

والأصل المعتمد عليه في هذا الباب التورية والاختفاء بحيث يكون ذلك أخفى من سفاد

الغراب وأظرف من عنقاء مغرب في الإغراب‏.‏

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول‏:‏ إن لأحد من المتأخرين معنى مبتدعا

فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا‏.‏

وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يلتفت إليه لأن الشعر من الأمور المتناقلة

والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه أن العرب كانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعن لها من

الحاجات ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد أمريء القيس وهو قبل الإسلام بمائة سنة

زائدا فناقصا فقصد القصائد وهو أول من قصد ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول

من قصد القصائد لكان في ذلك كفاية وأي فضيلة من هذه الفضيلة ثم تتابع المقصدون

واختير من القصائد تلك السبع التي علقت على البيت وانفتح للشعراء هذا الباب في التقصيد

وكثرت المعاني المقولة بسببه ولم يزل الأمر ينمي ويزيد ويؤتي بالمعاني الغريبة واستمر ذلك إلى عهد الدولة العباسية وما بعدها إلى الدولة الحمدانية فعظم الشعر وكثرت أساليبه وتشعبت

طرقه وكان ختامه على الثلاثة المتأخرين وهم‏:‏ أبو تمام حبيب بن أوس وأبو عبادة الوليد بن

عبيد البحتري وأبو الطيب المتنبي فإذا قيل‏:‏ إن المعاني المبتدعة سبق إليها ولم يبق معنى

مبتدع عورض ذلك بما ذكرته‏.‏

والصحيح أن باب الابتداع للمعاني مفتوح إلى يوم القيامة ومن الذي يحجر على الخواطر وهي

قاذفة بما لا نهاية له إلا أن من المعاني ما يتساوى الشعراء فيه ولا يطلق عليه اسم الابتداع

لأول قبل آخر لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر قول الأول كقولهم في الغزل‏:‏

عفت الديار وما عفت آثارهن من القلوب

وكقولهم إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه وإن الواشي لو علم بمرار الطيف لساءه

وكقولهم في المديح‏:‏ إن عطاءه كالبحر وكالسحاب وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد وإنه

يجود ابتداء من غير مسألة وأشباه ذلك وكقولهم في المراثي‏:‏ إن هذا الرزء أول حادث وإنه

استواى فيه الأباعد والأقارب وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة وإن بعد هذا

الذاهب لا يعد للمنية ذنب وأشباه ذلك‏.‏

وكذلك يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة وتستوي في إيرادها ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأول وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص كقول أبي تمام‏:‏

لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا شردوا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس

فإن هذا المعنى مخصوص ابتدعه أبو تمام وكان لابتداعه سبب والحكاية فيه مشهورة وهي

أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي مطلعها‏:‏

ما في وقوفك ساعة من باس انتهى إلى قوله‏:‏

فقال الحكيم الكندي‏:‏ وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب فأطرق أبو تمام ثم

أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إياه بعمرو وحاتم وإياس وهذا معنى يشهد به الحال أنه

ابتدعه فمن أتى من بعده بهذا المعنى أو بجزء منه فإنه يكون سارقا له‏.‏

وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة وولديه‏:‏

وأنت الشمس تبهر كل عين فكيف وقد بدت معها اثنتان

فعاشا عيشة القمرين يحيا بضوئهما ولا يتحاسدان

ولا ملكا سوى ملك الأعادي ولا ورثا سوى من يقتلان

وكان ابنا عدو كاثراه له ياءي حروف أنيسيان

وهذا معنى لأبي الطيب وهو الذي ابتدعه‏:‏ أي أن زيادة أولاد عدوك كزيادة التصغير فإنها

زيادة نقص‏.‏

وما ينبغي أن يقال إن ابن الرومي ابتدع هذا المعنى الذي هو‏:‏

تشكو المحب وتلفى الدهر شاكية كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان

فإن علماء البيان يزعمون أن هذا المعنى مبتدع لابن الرومي وليس كذلك ولكنه مأخوذ من

المثل المضروب وهو قولهم‏:‏ يلدغ ويسي ويضرب ذلك لمن يبتديء بالأذى ثم يشكو وإنما مثل

ابن الرومي قد ابتدع معاني آخر غير ما ذكرته وليس الغرض أن يؤتى على جميع ما جاء به هو ولا غيره من المعاني المبتدعة بل الغرض أن يبين المعنى المبتدع من غيره‏.‏

والذي عندي في السرقات أنه متى أورد الآخر شيئا من ألفاظ الأول في معنى من المعاني ولو

لفظة واحدة فإن ذلك من أدل الدليل على سرقته‏.‏

واعلم أن علماء البيان قد تكلموا في السرقات الشعرية فأكثروا وكنت ألفت فيه كتابا وقسمته

ثلاثة أقسام‏:‏ نسخا وسلخا ومسخا‏.‏

أما النسخ فهو‏:‏ أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب‏.‏

أما السلخ هو‏:‏ أخذ بعض المعنى مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ

وأما المسخ فهو‏:‏ إحالة المعنى إلى ما دونه مأخوذا ذلك من مسخ الآدميين قردة‏.‏

وههنا قسمان آخران أخللت بذكرهما في الكتاب الذي ألفته فأحدهما أخذ المعنى مع الزيادة

عليه والآخر عكس المعنى إلى ضده وهذان القسمان ليسا بنسخ ولا سلخ ولا مسخ‏.‏

وكل قسم من هذه الأقسام يتنوع ويتفرع وتخرج به القسمة إلى مسالك دقيقة وقد استأنفت ما

فاتني من ذلك في هذا الكتاب والله الموفق للصواب‏.‏

ومن المعلوم أن السرقات الشعرية لا يمكن الوقوف عليها إلا بحفظ الأشعار الكثيرة التي لا

يحصرها عدد فمن رام الأخذ بنواصيها والاشتمال على قواصيها بأن يتصفح الأشعار

تصفحا ويقتنع بتأملها ناظرا فإنه لا يظفر منها إلا بالحواشي والأطراف‏.‏

وكنت سافرت إلى الشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة ودخلت مدينة دمشق فوجدت جماعة

من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها‏:‏

خذا من صبا نجد أمانا لقلبه

ويزعمون أنه من المعاني الغريبة وهو‏:‏

أغار إذا آنست في الحي أنة حذارا عليه أن تكون لحبه

فقلت لهم‏:‏ هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيب المتنبي في قوله‏:‏

لو قلت للدنف المشوق فديته مما به لأغرته بفدائه

وقول أبي الطيب أدق معنى وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظا ثم إني وقفتهم على مواضع

كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي‏.‏

وسافرت إلى الديار المصرية في سنة ست وتسعين فوجدت أهلها يعجبون ببيت من الشعر

يعزونه إلى شاعر من أهل اليمن يقال له عمارة وكان حديث عهد بزماننا هذا في آخر الدولة

العلوية بمصر وذلك البيت من جملة قصيدة له يمدح بها بعض خلفائها عند قدومه عليه من

فهل درى البيت أني بعد فرقته ما سرت من حرم إلا إلى حرم

فقلت لهم‏:‏ هذا البيت مأخوذ من شعر أبي تمام في قوله مادحا لبعض الخلفاء في حجة حجها

وذلك بيت من جملة أبيات حسنة‏:‏

يا من رأى حرما يسري إلى حرم طوبى لمستلم يأتي وملتزم

ثم قلت في نفسي‏:‏ يالله العجب ليس أبو تمام وأبو الطيب من الشعراء الذين درست

أشعارهم ولا هما ممن لم يعرف ولا اشتهر أمره بل هما كما يقال‏:‏ أشهر من الشمس والقمر

وشعرهما دائر في أيدي الناس بخلاف غيرهما فكيف خفي على أهل مصر ودمشق بيتا ابن

الخياط وعمارة المأخوذان من شعرهما

وعلمت حينئذ أن سبب ذلك عدم الحفظ للأشعار والاقتناع بالنظر في دواوينهما ولما

نصبت نفسي للخوض في علم البيان ورمت أن أكون معدودا من علمائه علمت أن هذه الدرجة

لا تنال إلا بنقل ما في الكتب إلى الصدور والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور‏:‏

ليس يعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر

ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع وانفدت شطرا من العمر في المحفوظ منه

والمسموع فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء

قائله فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده وتتشعب مقاصده ولم أكن ممن أخذ

بالتقليد والتسليم في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم إذ المراد من الشعر إنما هو إيراد

المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف فمتى وجدت ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل وقد

اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس وأبي عبادة بن الوليد وأبي الطيب المتنبي وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته وقد

حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة

الحكماء‏.‏

أما أبو تمام فإنه رب معان وصيقل ألباب وأذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمش فيه

على أثر فهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي برز فيه على الأضراب ولقد مارست من

الشعر كل أول وأخير ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير فمن حفظ شعر الرجل وكشف

عن غامضه وراضض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام

فخذ مني في ذلك قول حكيم وتعلم ففوق كل ذي علم عليم‏.‏

وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى وأراد أن يشعر فغنى ولقد

حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق

وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال‏:‏ أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر

البحتري والعمري إنه أنصف في حكمه وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه فإن أبا عبادة أتى في

شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء فأدرك بذلك

بعد المرام مع قربه إلى الأفهام وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية ورقى في ديباجة

لفظه إلى الدرجة العالية‏.‏

وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه ولم يعطه الشعر

من قياده ما أعطاه لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال واختص بالإبداع في وصف مواقف

القتال وأنا أقول قولا لست فيه متأثما ولا منه متلثما وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان

لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها حتى تظن

الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه

ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان فيصف لسانه ما أدى إليه عيانه

ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن سنن التوسط فإما مفرط في وصفه وإما مفرط

وهو وإن انفرد بطريق صار أبا عذره فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره وعلى الحقيقة

فإنه خاتم الشعراء ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء ولقد صدق في قوله من

لا تطلبن كريما بعد رؤيته إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا

ولا تبال بشعر بعد شاعره قد أفسد القول حتى أحمد الصمم

ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى وجدته أقساما خمسة خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره وخمس من متوسط الشعر وخمس دون ذلك وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها وعدمها خير من وجودها ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها فإنها التي ألبسته لباس الملام وجعلت عرضه شارة لسهام الأقوام‏.‏ ولسائل ههنا أن يسأل لما عدلت إلى شعر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم

فأقول‏:‏ إني لم أعدل إليهم اتفاقا وإنما عدلت إليهم نظرا واجتهادا وذلك أني وقفت على

أشعار الشعراء قديمها وحديثها حتى لم أترك ديوانا لشاعر مفلق يثبت شعره على المحل إلا

وعرضته على نظري فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة ولا أكثر

استخراجا منهما للطيف الأغراض والمقاصد ولم أجد تهذيبا للألفاظ من أبي عبادة ولا أنقش

ديباجة ولا أبهج سبكا فاخترت حينئذ دواوينهم لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني

والألفاظ ولما حفظتها ألغيت ما سواها مع ما بقي على خاطري من غيرها‏.‏

وقد أوردت في هذا الموضع من السرقات الشعرية ما لو يورده غيري ونبهت على غوامض

منها‏.‏

وكنت قدمت القول أني قسمتها إلى خمسة أقسام منها الثلاثة الأول وهي‏:‏ النسخ والسلخ

والمسخ ومنهما القسمان الآخران وها أنا أبين ما تنقسم إليه هذه الأقسام من تشعبها وتفريعها

فأقول‏:‏